موقع المختار الإسلامي - فرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن أميا
يردد بعض المغرضين أن النبي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يكن أميا ، و هذا باطل يخالف ما في السنة و الكتاب ففي القرآن ما يدل على أميته - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ﴾ ( سورة الأعراف من الآية 157 )
و أكثر المفسرين أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وقد وصف الله – سبحانه و تعالى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمي ؛ لأنه لم يقرأ كتابا، ولا تعلم الكتابة .
قال الزجاج – رحمه الله - : « الْأُمِّيُّ : هو على خلقة الأمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّتِهِ » .
و قال الطبري – رحمه الله - : « "الأمي" عند العرب : هو الذي لا يكتب » .
و قال الواحدي – رحمه الله - : « ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ﴾ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ » .
و قال البغوي – رحمه الله -: « وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ » .
و قال ابن عطية – رحمه الله - : « والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك » .
و قال ابن عطية – رحمه الله – أيضا : « والْأُمِّيِّينَ: يراد بهم العرب، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتابا، قيل هو منسوب إلى الأم، أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمة، أي على سليقة البشر دون تعلم، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف ؛ لأن الوصف بـ ( الْأُمِّيِّينَ ) على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب » .
و قال تعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48 )
يقول الطبري : « يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ﴿ وَمَا كُنْتَ ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿ تَتْلُو ﴾ يَعْنِي تَقْرَأُ ﴿ مِنْ قَبْلِهِ ﴾ يَعْنِي مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ ﴿ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ يَقُولُ: وَلَمْ تَكُنْ تَكْتُبُ بِيَمِينِكَ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ أُمِّيًّا ﴿ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ يَقُولُ: وَلَوْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ تَقْرَأُ الْكِتَابَ، أَوْ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذَنْ لَارْتَابَ: يَقُولُ: إِذَنْ لَشَكَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي أَمْرِكَ، وَمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْهِمُ الْمُبْطِلُونَ , الْقَائِلُونَ: إِنَّهُ سَجْعٌ وَكَهَانَةٌ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ » .
قال حسين المالكي : « و قوله : ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ﴾ ( سورة العنكبوت من الآية 48) أي : و ما كنت تقرأ قبل هذا القرآن , الذي تسنم من قمة البلاغة وقمة الفصاحة أرفع مكان .
﴿ مِنْ كِتَابٍ ﴾ حتى يتعلق المرتاب بعلاقة الشبهة والارتياب .
﴿ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ أي: ولم تكن تكتب شيئا بيدك, وهو محو للشبهة الزائفة, وتقرير للمعجزة النائفة ولكن كما قال : ﴿ مَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ ( سورة ونس من الآية 101 ) ﴿ وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ ( سورة النساء من الآية 82 ) .
فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة على من لم يعرف قبله بالقراءة والخط والتعليم خارق للعادة .
﴿ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ ( سورة العنكبوت من الآية 48) أي : و لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين , و سماهم لكفرهم مبطلين .
و قيل : لارتاب أهل الكتاب لوجدناهم نعتك على خلاف ما في كتبهم مقرر , فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر » .
و قال الشيخ البراك – حفظه الله - : « وتأمل قولَه سبحانه وتعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48 ) فمن أدلة صدقه - صلى الله عليه وسلم - إنه جاء بهذا الكتاب العظيم، وهو - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ بل يكتبُ ويقرأ له أصحابُه - رضي الله عنهم - .
فكونه بهذه المثابة من الصدق، والأمانة، والطهر، والشرف، والفضائل، ولا يقرأ، ولا يكتب، ولا اتصل بأحد يمكن أن يتلقى عنه، ثم يأتي بهذا القرآن العظيم المحكم؛ هذا أعظم دليل على صدقه » .
و قال الزحيلي - حفظه الله - : « و لم تكن أيها النّبي قبل النّبوة تقرأ شيئا من الكتب، ولا تعرف الكتابة و لا القراءة ، ولا تستطيع أن تخطّ سطرا من الكتاب بيمينك ، فأنت خالي الذهن ، لم تتشرب بشيء سابق، ولو كنت قارئا وكاتبا ، لشكّ المشركون الجهلة فيما نزّل إليك ، وادّعوا أنه مأخوذ من كتب سابقة.
وإذ لم تكن كاتبا ولا قارئا ولا سبيل لك إلى التّعلم، فلا وجه لارتياب كل من عاداك، فأهل الباطل هم المتمسكون بالضلالات الموروثة، والانحرافات الشائعة » .
و عن ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنَّهُ قَالَ : « إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا » يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ
و قد رد ابن كثير على فرية من زعم أن النبي قد تعلم الكتابة فقال : « وَمَنْ زَعَمَ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ، كَالْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "ثُمَّ أَخَذَ فَكَتَبَ": وَهَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "ثُمَّ أَمَرَ فَكَتَبَ".
وَلِهَذَا اشْتَدَّ النَّكِيرُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا مِنْهُ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا وَخَطَبُوا بِهِ فِي مَحَافِلِهِمْ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ -أَعْنِي الْبَاجِيَّ، فِيمَا يَظْهَرُ عَنْهُ -أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ، لَا أَنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، كَمَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِخْبَارًا عَنِ الدَّجَّالِ: "مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ" وَفِي رِوَايَةٍ: "ك ف ر، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ" ، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ » .
و قال ابن كثير أيضا : « وقد زعم بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى تعلم الكتابة ، وهذا قول لا دليل عليه، فهو مردود، إلا مارواه البيهقي من حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل ، عن مجالد ، عن عون بن عبد الله، عن أبيه قال : لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كتب وقرأ .
وقال مجالد : فذكرت ذلك للشعبي فقال : قد صدق، سمعت من أصحابنا يذكرون ذلك، ويحيى هذا ضعيف ، و مجالد فيه كلام .
وهكذا ادعى بعض علماء المغرب أنه كتب- صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية، فأنكر ذلك عليه أشد الإنكار وتبرئ من قائله على رؤوس المنابر، وعملوا فيه الأشعار، وقد غره في ذلك ما جاء في بعض روايات البخاري: " فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.." ، وقد علم أن المقيد يقضي على المطلق، ففي الرواية الأخرى : " فأمر علياً فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم – " » .
و قال ابن حجر– رحمه الله - : « قَوْلُهُ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصُّلْحِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَيْسَتْ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ .
وَلِهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ نِسْبَتَهَا إِلَى تَخْرِيجِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَلَا فِي مُسْلِمٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ عَنْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكتب بن عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى وَقَدْ عَرَفْتُ ثُبُوتَهَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي مَظِنَّةِ الْحَدِيثِ .
وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى مِثْلَ مَا هُنَا سَوَاءً وَكَذَا أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْ حُجَيْنِ بْنِ الْمَثْنَى عَنْ إِسْرَائِيلَ وَلَفْظُهُ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ مَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فَادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ بِيَدِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَشَنَّعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَانِهِ وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ وَأَنَّ الَّذِي قَالَه مُخَالف الْقُرْآنَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَتَبَ .
فَجَمَعَهُمُ الْأَمِيرُ فَاسْتَظْهَرَ الْبَاجِيُّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ لِلْأَمِيرِ هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ النَّفْيَ بِمَا قَبْلَ وُرُودِ الْقُرْآنِ فَقَالَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تخطه بيمينك وَبَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتْ أُمِّيَّتُهُ وَتَقَرَّرَتْ بِذَلِكَ مُعْجِزَتُهُ وَأُمِنَ الِارْتِيَابَ فِي ذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ الْكِتَابَةَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيم فَتكون معْجزَة أُخْرَى .
وَذكر بن دِحْيَةَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ وَافَقُوا الْبَاجِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ شَيْخُهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ النَّيْسَابُورِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ إِفْرِيقِيَةَ وَغَيرهَا وَاحْتج بَعضهم لذَلِك بِمَا أخرجه بن أبيشَيْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَا مَاتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَتَبَ وَقَرَأَ .
قَالَ مُجَاهِدٌ فَذَكَرْتُهُ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ صَدَقَ قَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَلَى أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَكْتُبَ لِلْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ فَقَالَ عُيَيْنَةُ أَتَرَانِي أَذْهَبُ بِصَحِيفَةِ الْمُتَلَمِّسِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيفَةَ فَنَظَرَ فِيهَا فَقَالَ قَدْ كَتَبَ لَكَ بِمَا أُمِرَ لَكَ قَالَ يُونُسُ فَنَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب بعد مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ .
قَالَ عِيَاضٌ وَرَدَتْ آثَارٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ حُرُوفِ الْخَطِّ وَحُسْنِ تَصْوِيرِهَا كَقَوْلِهِ لِكَاتِبِهِ ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ وَقَوْلِهِ لِمُعَاوِيَةَ أَلْقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَأَقِمِ الْبَاءَ وَفَرِّقِ السِّينَ وَلَا تَعْوِرِ الْمِيمَ وَقَوْلُهُ لَا تَمُدَّ بِسْمِ اللَّهِ قَالَ وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَتَبَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ وَضْعِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ .
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِضَعْفِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَعَنْ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَالْكَاتِبُ فِيهَا عَلِيٌّ وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بِأَنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَتَبَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّكْتَةَ فِي قَوْلِهِ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ : أَرِنِي إِيَّاهَا أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الْكَلِمَةِ الَّتِي امْتَنَعَ عَلِيٌّ مِنْ مَحْوِهَا إِلَّا لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَتَبَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَمَحَاهَا فَأَعَادَهَا لِعَلِيٍّ فَكَتَبَ .
وَبِهَذَا جَزَمَ بن التِّينِ وَأَطْلَقَ كَتَبَ بِمَعْنَى أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَةِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بِالْكِتَابَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا .
فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ يَعْرِفُ تَصَوُّرَ بعض الْكَلِمَات وَيحسن وَضعهَا بِيَدِهِ وَخُصُوصًا الْأَسْمَاءَ وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَتْ يَدُهُ بِالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُهَا فَخَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ فَيَكُونَ مُعْجِزَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَاصَّةً وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَبِهَذَا أَجَابَ أَبُو جَعْفَرٍ السِمْنَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَتَبعهُ بن الْجَوْزِيِّ وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَيَكُونُ آيَةً أُخْرَى لَكِنَّهُ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْحُجَّةُ وَأُفْحِمَ الْجَاحِدُ وَانْحَسَمَتِ الشُّبْهَةُ .
فَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ يَكْتُبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَعَادَتِ الشُّبْهَةُ وَقَالَ الْمُعَانِدُ كَانَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ لَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ ذَلِكَ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا .
والْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَتَبَ أَيْ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَكْتُبَ انْتَهَى وَفِي دَعْوَى أَنَّ كِتَابَةَ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فَقَطْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تَسْتَلْزِمُ مُنَاقَضَةَ الْمُعْجِزَةِ وَتُثْبِتُ كَوْنَهَ غَيْرَ أُمِّيٍّ نَظَرٌ كَبِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ » .
و قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على قول إبراهيم النخعي : " منهم من لا يحسن أن يكتب " في قوله تعالى : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ﴾ ( سورة البقرة من الآية 78 ) : « قوله "لا يحسن أن يكتب" نفى لمعرفة الكتابة، لا لجودة معرفة الكتابة ، كما يسبق إلى الوهم .
و قديما قام بعض أساتذتنا يدعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يعرف الكتابة ، ولكنة لا يحسنها ، لخبر استدل به هو - أو اتبع فيه من استدل به من أعاجم المستشرقين - .
وهو ما جاء في تاريخ الطبري 3: 80 في شرح قصة الحديبية، حين جاء سهيل بن عمرو، لكتابة الصلح.
روى الطبري عن البراء بن عازب قال : ".. فلما كتب الكتاب، كتب:"هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله"، فقالوا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال : أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله . قال لعلي : امح"رسول الله" . قال : لا والله لا أمحاك أبدا . فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب: "فكتب مكان "رسول الله" "محمد"، فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد".
فظن أولا أن ضمير الفاعل في قوله "فكتب مكان "رسول الله" - محمد"، هو رسول الله - صلى الله عليه - . وليس كذلك بل هو: علي بن أبي طالب الكاتب.
وفي الكلام اختصار، فإنه لما أمر عليا أن يمحو الكتاب فأبى، أخذه رسول الله، وليس يحسن يكتب، فمحاه. وتفسير ذلك قد أتى في حديث البخاري عن البراء بن عازب أيضًا 3: 184:"فقال لعلى" امحه. فقال على: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بيده ".
و أخرى أنه أخطأ في معنى"يحسن"، فإنها هنا بمعنى"يعلم"، وهو أدب حسن في العبارة ، حتى لا ينفي عنه العلم .
وقد جاء في تفسير الطبري 21: 6 في تفسير قوله تعالى : ﴿ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ ( سورة السجدة من الآية 7 ) ، ما نصه :"معنى ذلك : أعلم كل شيء خلقه. كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم كل خلقه ما يحتاجون إليه .
وأن قوله:"أحسن"، إنما هو من قول القائل:"فلا يحسن كذا"، إذا كان يعلمه". هذا، والعرب تتأدب بمثل هذا، فتضع اللفظ مكان اللفظ؛ وتبطل بعض معناه، ليكون تنزيها للسان، أو تكرمه للذي تخبر عنه.
فمعنى قوله :"ليس يحسن يكتب " ، أي ليس يعرف يكتب . و قد أطال السهيلي في الروض الأنف 1: 230 بكلام ليس يغني في تفسير هذا الكلمة » .
و قد يستدل بعض المغرضين بما رواه البخاري عن ابْن عَبَّاس أنه لَمَّا حُضِرَ النَّبِىّ - عليه السلام – و َفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - : " هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ " لكن هذا من قبيل بنى الملك أي أمر بالبناء و كتب الملك أي أمر بالكتابة ، و كسى الملك الكعبة أي أمر بكسوة الكعبة ،و الناس لم تزل تقول : قَتلَ الأمير ، وكتب الأمير وجلد وضرب ، و إنما تقصد أنه وجه بذلك وأمر به ، من غير أن يفهم السامع أنه فعله بنفسه .
و الأمي في لغة العرب هو من لا يقرأ و لا يكتب قال ابن منظور : « والأُمِّيّ : الَّذِي لَا يَكْتُبُ ، قَالَ الزَّجَّاجُ : الأُمِّيُّ الَّذِي عَلَى خِلْقَة الأُمَّةِ لَمْ يَتَعَلَّم الكِتاب فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِه ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ ﴾ .
قَالَ أَبو إِسْحَاقَ : مَعْنَى الأُمِّيّ المَنْسُوب إِلَى مَا عَلَيْهِ جَبَلَتْه أُمُّه أَيْ لَا يَكتُبُ، فَهُوَ فِي أَنه لَا يَكتُب أُمِّيٌّ ؛ لأَن الكِتابة هِيَ مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إِلَى مَا يُولد عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا وَلَدَته أُمُّهُ عَلَيْهِ ، وَ كَانَتِ الكُتَّاب فِي الْعَرَبِ مِنْ أَهل الطَّائِفِ تَعَلَّموها مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الحِيرة ، وأَخذها أَهل الْحِيرَةِ عَنْ أَهل الأَنْبار .
و فِي الْحَدِيثِ : " إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب " ، أَراد أَنهم عَلَى أَصل وِلَادَةِ أُمِّهم لَمْ يَتَعَلَّموا الكِتابة و الحِساب ، فَهُمْ عَلَى جِبِلَّتِهم الأُولى . وَ فِي الْحَدِيثِ : " بُعِثتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّة "
قِيلَ لِلْعَرَبِ الأُمِّيُّون ؛ لأَن الكِتابة كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزة أَو عَديمة ؛ و َمِنْهُ قَوْلُهُ : ﴿ بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ » .
و قال الزبيدي أن الأمي هو : « مَنْ لَا يَكْتُبُ، أَو من عَلَى خِلْقَةِ الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتابَ وَهُوَ باقٍ على جِبِلَّتِهِ .
وَ فِي الحَديث : " إِنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّة لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب " أَرَادَ : أنّه على أَصْلِ وِلادَةِ أُمِّهم لم يَتَعَلَّمُوا الْكِتَابَة و الحِسابَ ، فهم على جبِلَّتِهم الأُولَى.
وَقيل لسَيّدِنا مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْه وسلَّم - الأُمِّي؛ لأَنَّ أُمَّةَ العَرَب لم تَكُنْ تكتُبُ وَلَا تَقْرَأُ المكتوبَ، وَبَعثه الله رَسُولًا وَهُوَ لَا يَكْتُبُ وَلَا يقْرَأ مِنْ كِتابٍ .
وَ كَانَت هَذِه الخَلَّةُ إِحْدَى آياتِهِ المُعْجِزَة ؛ لأنَّه - صَلَّى الله عَلَيْه وسلَّم - تَلَا عَلَيْهِم كِتابَ الله مَنْظومًا تارَةً بعد أُخْرَى بالنَّظْمِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَلم يُغَيِّرْه وَلم يُبَدِّلْ أَلْفَاظَهُ، فَفِي ذَلِك أَنْزَلَ الله تعالىَ : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتلُواْ مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُهُ بِيَمِيِنكَ إِذًا لَّاَرتَابَ المُبْطِلُونَ ﴾ » .
يردد بعض المغرضين أن النبي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يكن أميا ، و هذا باطل يخالف ما في السنة و الكتاب ففي القرآن ما يدل على أميته - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ ﴾ ( سورة الأعراف من الآية 157 )
و أكثر المفسرين أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وقد وصف الله – سبحانه و تعالى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمي ؛ لأنه لم يقرأ كتابا، ولا تعلم الكتابة .
قال الزجاج – رحمه الله - : « الْأُمِّيُّ : هو على خلقة الأمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّتِهِ » .
و قال الطبري – رحمه الله - : « "الأمي" عند العرب : هو الذي لا يكتب » .
و قال الواحدي – رحمه الله - : « ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ﴾ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ » .
و قال البغوي – رحمه الله -: « وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ » .
و قال ابن عطية – رحمه الله - : « والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك » .
و قال ابن عطية – رحمه الله – أيضا : « والْأُمِّيِّينَ: يراد بهم العرب، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتابا، قيل هو منسوب إلى الأم، أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمة، أي على سليقة البشر دون تعلم، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف ؛ لأن الوصف بـ ( الْأُمِّيِّينَ ) على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب » .
و قال تعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48 )
يقول الطبري : « يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ﴿ وَمَا كُنْتَ ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿ تَتْلُو ﴾ يَعْنِي تَقْرَأُ ﴿ مِنْ قَبْلِهِ ﴾ يَعْنِي مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ ﴿ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ يَقُولُ: وَلَمْ تَكُنْ تَكْتُبُ بِيَمِينِكَ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ أُمِّيًّا ﴿ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ يَقُولُ: وَلَوْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ تَقْرَأُ الْكِتَابَ، أَوْ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذَنْ لَارْتَابَ: يَقُولُ: إِذَنْ لَشَكَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي أَمْرِكَ، وَمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْهِمُ الْمُبْطِلُونَ , الْقَائِلُونَ: إِنَّهُ سَجْعٌ وَكَهَانَةٌ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ » .
قال حسين المالكي : « و قوله : ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ﴾ ( سورة العنكبوت من الآية 48) أي : و ما كنت تقرأ قبل هذا القرآن , الذي تسنم من قمة البلاغة وقمة الفصاحة أرفع مكان .
﴿ مِنْ كِتَابٍ ﴾ حتى يتعلق المرتاب بعلاقة الشبهة والارتياب .
﴿ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ أي: ولم تكن تكتب شيئا بيدك, وهو محو للشبهة الزائفة, وتقرير للمعجزة النائفة ولكن كما قال : ﴿ مَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ ( سورة ونس من الآية 101 ) ﴿ وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ ( سورة النساء من الآية 82 ) .
فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة على من لم يعرف قبله بالقراءة والخط والتعليم خارق للعادة .
﴿ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ ( سورة العنكبوت من الآية 48) أي : و لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين , و سماهم لكفرهم مبطلين .
و قيل : لارتاب أهل الكتاب لوجدناهم نعتك على خلاف ما في كتبهم مقرر , فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر » .
و قال الشيخ البراك – حفظه الله - : « وتأمل قولَه سبحانه وتعالى : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48 ) فمن أدلة صدقه - صلى الله عليه وسلم - إنه جاء بهذا الكتاب العظيم، وهو - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ بل يكتبُ ويقرأ له أصحابُه - رضي الله عنهم - .
فكونه بهذه المثابة من الصدق، والأمانة، والطهر، والشرف، والفضائل، ولا يقرأ، ولا يكتب، ولا اتصل بأحد يمكن أن يتلقى عنه، ثم يأتي بهذا القرآن العظيم المحكم؛ هذا أعظم دليل على صدقه » .
و قال الزحيلي - حفظه الله - : « و لم تكن أيها النّبي قبل النّبوة تقرأ شيئا من الكتب، ولا تعرف الكتابة و لا القراءة ، ولا تستطيع أن تخطّ سطرا من الكتاب بيمينك ، فأنت خالي الذهن ، لم تتشرب بشيء سابق، ولو كنت قارئا وكاتبا ، لشكّ المشركون الجهلة فيما نزّل إليك ، وادّعوا أنه مأخوذ من كتب سابقة.
وإذ لم تكن كاتبا ولا قارئا ولا سبيل لك إلى التّعلم، فلا وجه لارتياب كل من عاداك، فأهل الباطل هم المتمسكون بالضلالات الموروثة، والانحرافات الشائعة » .
و عن ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنَّهُ قَالَ : « إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا » يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ
و قد رد ابن كثير على فرية من زعم أن النبي قد تعلم الكتابة فقال : « وَمَنْ زَعَمَ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ، كَالْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "ثُمَّ أَخَذَ فَكَتَبَ": وَهَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "ثُمَّ أَمَرَ فَكَتَبَ".
وَلِهَذَا اشْتَدَّ النَّكِيرُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا مِنْهُ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا وَخَطَبُوا بِهِ فِي مَحَافِلِهِمْ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ -أَعْنِي الْبَاجِيَّ، فِيمَا يَظْهَرُ عَنْهُ -أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ، لَا أَنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، كَمَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِخْبَارًا عَنِ الدَّجَّالِ: "مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ" وَفِي رِوَايَةٍ: "ك ف ر، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ" ، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ » .
و قال ابن كثير أيضا : « وقد زعم بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى تعلم الكتابة ، وهذا قول لا دليل عليه، فهو مردود، إلا مارواه البيهقي من حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل ، عن مجالد ، عن عون بن عبد الله، عن أبيه قال : لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كتب وقرأ .
وقال مجالد : فذكرت ذلك للشعبي فقال : قد صدق، سمعت من أصحابنا يذكرون ذلك، ويحيى هذا ضعيف ، و مجالد فيه كلام .
وهكذا ادعى بعض علماء المغرب أنه كتب- صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية، فأنكر ذلك عليه أشد الإنكار وتبرئ من قائله على رؤوس المنابر، وعملوا فيه الأشعار، وقد غره في ذلك ما جاء في بعض روايات البخاري: " فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.." ، وقد علم أن المقيد يقضي على المطلق، ففي الرواية الأخرى : " فأمر علياً فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم – " » .
و قال ابن حجر– رحمه الله - : « قَوْلُهُ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصُّلْحِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَيْسَتْ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ .
وَلِهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ نِسْبَتَهَا إِلَى تَخْرِيجِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَلَا فِي مُسْلِمٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ عَنْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكتب بن عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى وَقَدْ عَرَفْتُ ثُبُوتَهَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي مَظِنَّةِ الْحَدِيثِ .
وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى مِثْلَ مَا هُنَا سَوَاءً وَكَذَا أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْ حُجَيْنِ بْنِ الْمَثْنَى عَنْ إِسْرَائِيلَ وَلَفْظُهُ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ مَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فَادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ بِيَدِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَشَنَّعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَانِهِ وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ وَأَنَّ الَّذِي قَالَه مُخَالف الْقُرْآنَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَتَبَ .
فَجَمَعَهُمُ الْأَمِيرُ فَاسْتَظْهَرَ الْبَاجِيُّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ لِلْأَمِيرِ هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ النَّفْيَ بِمَا قَبْلَ وُرُودِ الْقُرْآنِ فَقَالَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تخطه بيمينك وَبَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتْ أُمِّيَّتُهُ وَتَقَرَّرَتْ بِذَلِكَ مُعْجِزَتُهُ وَأُمِنَ الِارْتِيَابَ فِي ذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ الْكِتَابَةَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيم فَتكون معْجزَة أُخْرَى .
وَذكر بن دِحْيَةَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ وَافَقُوا الْبَاجِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ شَيْخُهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ النَّيْسَابُورِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ إِفْرِيقِيَةَ وَغَيرهَا وَاحْتج بَعضهم لذَلِك بِمَا أخرجه بن أبيشَيْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَا مَاتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَتَبَ وَقَرَأَ .
قَالَ مُجَاهِدٌ فَذَكَرْتُهُ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ صَدَقَ قَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَلَى أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَكْتُبَ لِلْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ فَقَالَ عُيَيْنَةُ أَتَرَانِي أَذْهَبُ بِصَحِيفَةِ الْمُتَلَمِّسِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيفَةَ فَنَظَرَ فِيهَا فَقَالَ قَدْ كَتَبَ لَكَ بِمَا أُمِرَ لَكَ قَالَ يُونُسُ فَنَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب بعد مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ .
قَالَ عِيَاضٌ وَرَدَتْ آثَارٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ حُرُوفِ الْخَطِّ وَحُسْنِ تَصْوِيرِهَا كَقَوْلِهِ لِكَاتِبِهِ ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ وَقَوْلِهِ لِمُعَاوِيَةَ أَلْقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَأَقِمِ الْبَاءَ وَفَرِّقِ السِّينَ وَلَا تَعْوِرِ الْمِيمَ وَقَوْلُهُ لَا تَمُدَّ بِسْمِ اللَّهِ قَالَ وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَتَبَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ وَضْعِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ .
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِضَعْفِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَعَنْ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَالْكَاتِبُ فِيهَا عَلِيٌّ وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بِأَنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَتَبَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّكْتَةَ فِي قَوْلِهِ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ : أَرِنِي إِيَّاهَا أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الْكَلِمَةِ الَّتِي امْتَنَعَ عَلِيٌّ مِنْ مَحْوِهَا إِلَّا لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَتَبَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَمَحَاهَا فَأَعَادَهَا لِعَلِيٍّ فَكَتَبَ .
وَبِهَذَا جَزَمَ بن التِّينِ وَأَطْلَقَ كَتَبَ بِمَعْنَى أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَةِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بِالْكِتَابَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا .
فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ يَعْرِفُ تَصَوُّرَ بعض الْكَلِمَات وَيحسن وَضعهَا بِيَدِهِ وَخُصُوصًا الْأَسْمَاءَ وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَتْ يَدُهُ بِالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُهَا فَخَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ فَيَكُونَ مُعْجِزَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَاصَّةً وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَبِهَذَا أَجَابَ أَبُو جَعْفَرٍ السِمْنَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَتَبعهُ بن الْجَوْزِيِّ وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَيَكُونُ آيَةً أُخْرَى لَكِنَّهُ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْحُجَّةُ وَأُفْحِمَ الْجَاحِدُ وَانْحَسَمَتِ الشُّبْهَةُ .
فَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ يَكْتُبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَعَادَتِ الشُّبْهَةُ وَقَالَ الْمُعَانِدُ كَانَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ لَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ ذَلِكَ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا .
والْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَتَبَ أَيْ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَكْتُبَ انْتَهَى وَفِي دَعْوَى أَنَّ كِتَابَةَ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فَقَطْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تَسْتَلْزِمُ مُنَاقَضَةَ الْمُعْجِزَةِ وَتُثْبِتُ كَوْنَهَ غَيْرَ أُمِّيٍّ نَظَرٌ كَبِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ » .
و قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على قول إبراهيم النخعي : " منهم من لا يحسن أن يكتب " في قوله تعالى : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ﴾ ( سورة البقرة من الآية 78 ) : « قوله "لا يحسن أن يكتب" نفى لمعرفة الكتابة، لا لجودة معرفة الكتابة ، كما يسبق إلى الوهم .
و قديما قام بعض أساتذتنا يدعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يعرف الكتابة ، ولكنة لا يحسنها ، لخبر استدل به هو - أو اتبع فيه من استدل به من أعاجم المستشرقين - .
وهو ما جاء في تاريخ الطبري 3: 80 في شرح قصة الحديبية، حين جاء سهيل بن عمرو، لكتابة الصلح.
روى الطبري عن البراء بن عازب قال : ".. فلما كتب الكتاب، كتب:"هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله"، فقالوا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال : أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله . قال لعلي : امح"رسول الله" . قال : لا والله لا أمحاك أبدا . فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب: "فكتب مكان "رسول الله" "محمد"، فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد".
فظن أولا أن ضمير الفاعل في قوله "فكتب مكان "رسول الله" - محمد"، هو رسول الله - صلى الله عليه - . وليس كذلك بل هو: علي بن أبي طالب الكاتب.
وفي الكلام اختصار، فإنه لما أمر عليا أن يمحو الكتاب فأبى، أخذه رسول الله، وليس يحسن يكتب، فمحاه. وتفسير ذلك قد أتى في حديث البخاري عن البراء بن عازب أيضًا 3: 184:"فقال لعلى" امحه. فقال على: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بيده ".
و أخرى أنه أخطأ في معنى"يحسن"، فإنها هنا بمعنى"يعلم"، وهو أدب حسن في العبارة ، حتى لا ينفي عنه العلم .
وقد جاء في تفسير الطبري 21: 6 في تفسير قوله تعالى : ﴿ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ ( سورة السجدة من الآية 7 ) ، ما نصه :"معنى ذلك : أعلم كل شيء خلقه. كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم كل خلقه ما يحتاجون إليه .
وأن قوله:"أحسن"، إنما هو من قول القائل:"فلا يحسن كذا"، إذا كان يعلمه". هذا، والعرب تتأدب بمثل هذا، فتضع اللفظ مكان اللفظ؛ وتبطل بعض معناه، ليكون تنزيها للسان، أو تكرمه للذي تخبر عنه.
فمعنى قوله :"ليس يحسن يكتب " ، أي ليس يعرف يكتب . و قد أطال السهيلي في الروض الأنف 1: 230 بكلام ليس يغني في تفسير هذا الكلمة » .
و قد يستدل بعض المغرضين بما رواه البخاري عن ابْن عَبَّاس أنه لَمَّا حُضِرَ النَّبِىّ - عليه السلام – و َفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - : " هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ " لكن هذا من قبيل بنى الملك أي أمر بالبناء و كتب الملك أي أمر بالكتابة ، و كسى الملك الكعبة أي أمر بكسوة الكعبة ،و الناس لم تزل تقول : قَتلَ الأمير ، وكتب الأمير وجلد وضرب ، و إنما تقصد أنه وجه بذلك وأمر به ، من غير أن يفهم السامع أنه فعله بنفسه .
و الأمي في لغة العرب هو من لا يقرأ و لا يكتب قال ابن منظور : « والأُمِّيّ : الَّذِي لَا يَكْتُبُ ، قَالَ الزَّجَّاجُ : الأُمِّيُّ الَّذِي عَلَى خِلْقَة الأُمَّةِ لَمْ يَتَعَلَّم الكِتاب فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِه ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ ﴾ .
قَالَ أَبو إِسْحَاقَ : مَعْنَى الأُمِّيّ المَنْسُوب إِلَى مَا عَلَيْهِ جَبَلَتْه أُمُّه أَيْ لَا يَكتُبُ، فَهُوَ فِي أَنه لَا يَكتُب أُمِّيٌّ ؛ لأَن الكِتابة هِيَ مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إِلَى مَا يُولد عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا وَلَدَته أُمُّهُ عَلَيْهِ ، وَ كَانَتِ الكُتَّاب فِي الْعَرَبِ مِنْ أَهل الطَّائِفِ تَعَلَّموها مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الحِيرة ، وأَخذها أَهل الْحِيرَةِ عَنْ أَهل الأَنْبار .
و فِي الْحَدِيثِ : " إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب " ، أَراد أَنهم عَلَى أَصل وِلَادَةِ أُمِّهم لَمْ يَتَعَلَّموا الكِتابة و الحِساب ، فَهُمْ عَلَى جِبِلَّتِهم الأُولى . وَ فِي الْحَدِيثِ : " بُعِثتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّة "
قِيلَ لِلْعَرَبِ الأُمِّيُّون ؛ لأَن الكِتابة كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزة أَو عَديمة ؛ و َمِنْهُ قَوْلُهُ : ﴿ بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ » .
و قال الزبيدي أن الأمي هو : « مَنْ لَا يَكْتُبُ، أَو من عَلَى خِلْقَةِ الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتابَ وَهُوَ باقٍ على جِبِلَّتِهِ .
وَ فِي الحَديث : " إِنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّة لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب " أَرَادَ : أنّه على أَصْلِ وِلادَةِ أُمِّهم لم يَتَعَلَّمُوا الْكِتَابَة و الحِسابَ ، فهم على جبِلَّتِهم الأُولَى.
وَقيل لسَيّدِنا مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْه وسلَّم - الأُمِّي؛ لأَنَّ أُمَّةَ العَرَب لم تَكُنْ تكتُبُ وَلَا تَقْرَأُ المكتوبَ، وَبَعثه الله رَسُولًا وَهُوَ لَا يَكْتُبُ وَلَا يقْرَأ مِنْ كِتابٍ .
وَ كَانَت هَذِه الخَلَّةُ إِحْدَى آياتِهِ المُعْجِزَة ؛ لأنَّه - صَلَّى الله عَلَيْه وسلَّم - تَلَا عَلَيْهِم كِتابَ الله مَنْظومًا تارَةً بعد أُخْرَى بالنَّظْمِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَلم يُغَيِّرْه وَلم يُبَدِّلْ أَلْفَاظَهُ، فَفِي ذَلِك أَنْزَلَ الله تعالىَ : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتلُواْ مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُهُ بِيَمِيِنكَ إِذًا لَّاَرتَابَ المُبْطِلُونَ ﴾ » .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق