الجمعة، 23 ديسمبر 2016

موقع المختار الإسلامي - لماذا كان القرآن معجزة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -

موقع المختار الإسلامي - لماذا كان القرآن معجزة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -

قال الله - سبحانه و تعالى - : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ و المراد من مثل القرآن : ما يشابهه في حسن النظم ، وبراعة الأسلوب و جمال العبارة و عذوبة الكلمات والقصد في اللفظ مع وفائه بالمعنى و الجمال الصوتي للكلام وهذا الوجه من الإعجاز يتحقق في كل سورة من سور القرآن .

و كان القرآن الكريم معجزة عظيمة لنبينا محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - ؛ لِأَنَّهُ قد تحدى بِهِ كَافَّة الفصحاء البلغاء وَمُدَّة مقَامه بَينهم فَلم يقدروا على مُعَارضَة شَيْء مِنْهُ فَإِذن هُوَ معْجزَة بَيَان ذَلِك أَنه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعثه الله إِلَى قوم كَانَ مُعظم علمهمْ الْكَلَام الفصيح البليغ الْمليح .


فَلَقَد خصوا من البلاغة وَالْحكم بِمَا لم يخص بِهِ غَيرهم من الْأُمَم و أوتوا من دراية اللِّسَان مَا لم يؤته إِنْسَان وَمن فصل الْخطاب مَا يتعجب مِنْهُ أولُوا الْأَلْبَاب جعل الله لَهُم ذَلِك طبعا وخلقه فيهم غريزة و وضعا فَيَأْتُونَ مِنْهُ على البديهة بالعجب و يدلون بِهِ إِلَى كل سَبَب .


فيخطبون بدلهَا فِي المقامات وشديد الْخطب ويرتجزون بِهِ بَين الطعْن وَالضَّرْب فَرُبمَا مدحوا شَيْئا وضيعا فَرفع وَرُبمَا ذموا شريفا فَوضع فيصيرون بمدحهم النَّاقِص كَامِلا و النبيه خاملا وَ ذَلِكَ لفصاحتهم الرائقة وبلاغتهم الفائقة فَكَانُوا يأْتونَ من ذَلِك بِالسحرِ الْحَلَال ويوردونه أعذب من المَاء الزلَال فيخدعون بذلك الْأَلْبَاب ويذللون الصعاب ويذهبون الأحن ويهيجون الْفِتَن ويجرءون الجبان ويبسطون يَد الْجَعْد البنان .


فهم يعْرفُونَ أَصْنَاف الْكَلَام مَا كَانَ مِنْهُ نثرا وَمَا كَانَ ذَا نظام قد عمروا بذلك أزمانهم وَجعلُوا ذَلِك مهمتهم وشأنهم حَتَّى بلغُوا مِنْهُ أَعلَى الرتب وأطلوا مِنْهُ على كل غابة وَ سَب لَا ينازعهم فِي ذَلِك مُنَازع وَ لَا يدافعهم عَن ذَلِك مدافع فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ جَاءَهُم رَسُول كريم بقرآن حَكِيم فعرضه عَلَيْهِم وأسمعهم إِيَّاه وَ اسْتدلَّ على صدقه بذلك .


وَ قَالَ لَهُم إِن كُنْتُم فِي شكّ من صدقي فائتوا بقرآن مثله وَ عند سماعهم لَهُ راعهم مَا سمعُوا و َعَلمُوا أَنهم دون معارضته قد انْقَطَعُوا فَلم يقدروا على ذَلِك ثمَّ إِنَّه طلب مِنْهُم أَن يأتوا بِعشر سور مثله فعجزوا وَلم يقدروا ثمَّ طلب مِنْهُم أَن يَأْتُوا بِسُورَة مثله فَلم يستطيعوا .


وَعند ذَلِك أخْبرهُم ، وَقَالَ لَهُم : ﴿ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ يعْنى عونا فَعِنْدَ ذَلِك ظهر عجزهم وتبلدهم وَإِن كَانُوا هم اللسن الفصحاء اللد البلغاء .


وَ عند ظُهُور عجزهم تبينت حجَّته ووضحت محجته وَ هَكَذَا حَال غير وَاحِد من الرُّسُل أَلا ترى أَن الله تَعَالَى أرسل مُوسَى بن عمرَان إِلَى قوم كَانَ مُعظم علمهمْ وعملهم السحر فأيده بقلب العصى حَيَّة تسْعَى فرام السَّحَرَة معارضته ومقاومته فَلم يقدروا من ذَلِك على شَيْء وَ عند عجزهم تبين صدقه وَأَنه رَسُول من عِنْد الله .


وَكَذَلِكَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - بَعثه الله فِي زمَان كَانَ مُعظم علم أَهله الطِّبّ فأيده بإحياء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص وَعند عجزهم عَن الْإِتْيَان بِشَيْء من ذَلِك تبين صدقه وَأَنه رَسُول من عِنْد الله فَعلم بِهَذَا الْبُرْهَان الَّذِي لم يتَطَرَّق إِلَيْهِ خلل أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله .


و قال تقي الدين المقريزي : « فإن اللَّه - جل جلاله - أنزل هذا القرآن الكريم ، على وصف مباين لأوصاف كلام البشر ؛ لأنه منظوم و ليس منثور ونظمه ليس كنظم الرسائل ، ولا نظم الخطب ، و لا نظم الأشعار، و لا هو كسجع الكهان ، و أعلم سبحانه وتعالى أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله، ثم أمره - صلّى اللَّه عليه وسلّم - أن يتحداهم على الإتيان به إن ادعوا أنهم قادرون عليه » .


و قال ابن كثير – رحمه الله - : « فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِق - عز و جل - ، وَالله تَعَالَى لَا يُشبههُ شئ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ » .

و قال ابن تيمية – رحمه الله - : « قَدْ يَكُونُ فِي تَتَابُعِ الْآيَاتِ حِكْمَةٌ، فَيُتَابِعُ تَعَالَى بَيْنَ الْآيَاتِ، كَمَا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِعُمُومِ دَعْوَتِهِ وَشُمُولِهَا، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ كُلَّمَا كَثُرَتْ، وَتَوَارَدَتْ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ كَانَ أَوْكَدَ وَأَظْهَرَ وَأَيْسَرَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَقَدْ يَعْرِفُ دَلَالَةَ أَحَدِ الْأَدِلَّةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْآخَرَ، وَقَدْ يُبَلِّغُ هَذَا مَا لَمْ يُبَلِّغْ هَذَا، وَقَدْ يُرْسَلُ الْأَنْبِيَاءُ بِآيَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَتُقْسَى قُلُوبُ الْكُفَّارِ عَنِ الْإِيمَانِ لِتَتَابُعِ الْآيَاتِ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ، وَيَظْهَرَ، وَيَبْلُغَ ذَلِكَ قَوْمًا آخَرِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِآيَاتِ مُوسَى، وَآيَاتِ مُحَمَّدٍ، كَمَا ذَكَرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ يُقْسِي قَلْبَ فِرْعَوْنَ لِتَظْهَرَ عَجَائِبُهُ وَآيَاتُهُ، وَكَمَا صَدَّ الْمُكَذِّبِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمَانِعُوهُ، وَيَسْعَوْا فِي مُعَارَضَتِهِ، وَالْقَدْحِ فِي آيَاتِهِ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ عَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِهِ مِنْ آيَاتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ ظُهُورِ آيَاتِهِ، وَبَرَاهِينِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اتُّبِعَ ابْتِدَاءً بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِ، وَصَبْرِهِ، وَجِهَادِهِ، وَيَقِينِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَبْرِهِمْ، وَجِهَادِهِمْ مَا يَنَالُونَ بِهِ عَظِيمَ الدَّرَجَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » .


و قال القسطلاني - رحمه الله - : « إعجازه هو الوصف الذي صار به خارجا عن جنس كلام العرب من النظم و النثر و الخطب والشعر والرجز والسجع، فلا يدخل في شيء منها ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة في نظمهم ونثرهم، ولذلك تحيرت عقولهم، وتدلهت أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في حسن كلامهم، فلا ريب أنه في فصاحته قد قرع القلوب ببديع نظمه، وفى بلاغته قد أصاب المعاني بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقي إلا تهافت تهافت الفراش في الشهاب، وذل ذل النقد حول الليوث الغضاب .


وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكى عن يحيى بن حكيم الغزال- بتخفيف الزاي وقد تشدد- وكان بليغ الأندلس في زمانه أنه قد رام شيئا من هذا، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته خشية ورقة، حملته على التوبة والإنابة .


وحكى أيضا أن ابن المقفع – و كان أفصح أهل وقته - طلب ذلك ورامه ، و نظم كلاما وجعله مفصلا، وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى : ﴿ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ... ﴾ الآية ، فرجع و محى ما عمل وقال : أشهد أن هذا لا يعارض أبدا ، وما هو من كلام البشر » .


و قال الزرقاني – رحمه الله - : « أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب .


وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددا ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر وقارن بين الجملتين ووازن بين الكلامين وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي و كم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري؟


إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد ا.هـ


وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا حتى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي وصيغ على أكمل ما خلق الله فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن وسبحان الله و بحمده سبحانه الله العظيم ! » .
و يقول الشيخ أبو بكر الجزائري – رحمه الله - : « نزول القرآن الكريم عليه وحيا أوحاه الله تعالى إليه فإنه أكبر معجزة عرفها الوجود البشري إذ العادة قاضية بأن أميا لم يقرأ و لم يكتب و لم يجلس بين يدى أستاذ أو مرب أو معلم قط قاضية باستحالة تكلمه بالعلوم والمعارف و معرفته لها و تفوقه فيها فضلا عن أن يأتي بما لم يأت به غيره من كل معاصريه و ممن يأتي بعدهم إلى انقراض الحياة و نهاية الكون .


فالقرآن الكريم و قد حوى أعظم تشريع و اشتمل على قدر من العلوم الإلهية و على أثبت الحقائق العلمية كنظام الزوجية و القوانين الكونية كما تعرض لبدء الخليقة و ذكر من قصص الماضين و أخبار السابقين الشيء العجيب و أخبر بمغيبات عديدة فكانت كما أخبر حرفيا بلا زيادة أو نقصان .


هذا الكتاب يأتي به أمي يتحدى كل الخلق على الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثل سوره أو سورة واحدة فتعجز البشرية و معها الجن كلهم و تطأطئ رأسها و تسكت عن المعارضة لأكبر معجزة أوتيها محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – لتدل على صدق نبوته و ثبوت رسالته .


عرف هذا فداه أبي و أمي حين قال : "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" .


و هذه صورة التحدي قائمة إلى يوم القيامة تحويها آية واحدة هي قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ ( سورة البقرة 23 -24 )
فقوله تعالى : ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ أي الإتيان بسورة قرآنية من أمي مثل محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – في أميته هذا التحدي ، وهو نفي الإتيان بسورة من أمي مثل محمد في أميته مازال قائما » .


و قال الشعراوي – رحمه الله - : « والحق سبحانه وتعالى تدرج في التحدي مع الكافرين فطلب منهم أن يأتوا بمثل القرآن، ثم طلب عشر سور من مثله


ثم تدرج في التحدي فطلب سورة واحدة. والنزل في التحدي من القرآن كله إلى عشر سور. إلى سورة واحدة دليل ضد من تحداهم فلا يستطيعون أن يأتوا بمثل القرآن فيقول : إذن فأتوا بعشر سور فلا يستطيعون ويصبح موقفهم مدعاة للسخرية .


فيقول : فأتوا بسورة و هذا منتهى الاستهانة بالذين تحداهم الله سبحانه وتعالى و إثباتاً لأنهم لا يقدرون على شيء » .

و الألفاظ والمعاني والتراكيب النحوية في القرآن تنوَّعت ودخل فيها كل لغات في العرب ، و العربي نفسه كان لا يحيط بلغة العرب جميعاً بألفاظها وتفاصيلها ، و القرآن فيه كلمات بلغة قريش، وفيه كلمات بلغة هذيل، وفيه كلمات بلغة تميم، وفيه كلمات بلغة هوازن، وفيه كلمات بلغة أهل اليمن، وفيه كلمات بلغة حِمْيَر و غير ذلك .

و للقرآن جمالا لغويا يفوق أجمل الأشعار ، و جمال القرآن اللغوي يعتبر ظاهرة عجيبة امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم .


وبيان ذلك أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفر وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد .


ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش .


وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه .


ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي وذاك النظام الصوتي أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى وذلك أن من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع ويثير الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق وفي آذانهم ويعرف بذاته ومزاياه بينهم فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبديله .


و على الرغم من أن القرآن الكريم نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم- على مدار الثلاث والعشرين سنة، ومع ذلك فأول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل من القرآن من البلاغة على درجة واحدة .


و يقول الشيخ مناع القطان : « والحقيقة أن القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى :


فهو مُعْجز في ألفاظه و أسلوبه ، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية .


وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان .


وهو مُعجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود .


وهو مُعجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها المغيبة .


وهو مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه » .


و يقول الدكتور محمد بكر إسماعيل : « اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام, وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرًا على القلوب, وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركَّبَها تركيبًا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس، وتقتَحِم شغاف القلوب .


وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ, مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت .

فقد جاء رصف المباني وفق رصف المعاني، فالتقى البحران على أمر قد قُدِرَ، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعًا .


واستسلمت لهذا النسق الفريد، والترتيب العجيب أساطين البلاغة في كل زمان ومكان، واستمدَّت منه النفوس المؤمنة روحها وريحانها، فلم يشبع من دراسته العلماء، ولم يملّ تلاوته أحد من الأتقياء » .


نعود و نكرر أن القرآن معجزة عظيمة لنبينا محمد - صلى الله عليه و سلم - فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إذ رغم أن القرآن من جنس ما تكلم به العرب و هم كانوا من أهل البلاغة و الفصاحة و الشعر و النثر إلا أنه لم يستطع أحد منهم أن يأتي بمثله في البيان و الحلاوة و الحسن و الكمال و العذوبة و أداء المعنى المراد رغم حرص العرب ، و غير العرب على معارضته .


فلما عجز العرب عن الإتيان بمثله ، و هم كانوا في قمة الفصاحة و البلاغة و كانوا يتربصون بالإسلام الدوائر و كانوا يحاربون الإسلام بشتى الطرق علم أن غيرهم أعجز عن معارضة القرآن و لا يستطيع بشر معارضته فهو ليس من قول البشر بل قول خالق البشر .


قال تعالى : ﴿ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العَرب، ولساني مثل لسانكم، وكلامي [مثل كلامكم] ، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن .


و قد احتج الله علي مشركي العرب فِي إثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قطع عذرهم فقال : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا ﴾ أي : فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد ، وقلتم : لا ندري هل هو من عند الله أم لا ؟ ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي : من مثل القرآن ، كقوله : ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾ ( سورة الطور من الآية 34 ) ، و قوله : ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ ( سورة يونس من الآية 38 ) ، و قوله : ﴿ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه ِ﴾ ( سورة الإسراء من الآية 88 ) كل ذلك يريد به مثل القرآن فالمعنى: فأتوا بمثل ما أتى به محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الإعجاز وحسن النظم والإخبار عما كان وعما يكون دون تعلم الكتاب و دراسة الأخبار .


و معنى الْآيَة : هُوَ الِاحْتِجَاج على الْكفَّار بمعجزة الْقُرْآن ؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ : إِن مُحَمَّدًا قد افتراه ، فَقَالَ لَهُم : إِن كَانَ افتراه و أتى بِهِ من عِنْد نَفسه فَأتوا أَنْتُم بِمثلِهِ .


و يقول تعالى : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ ( سورة الطور الآيات 33 – 34 ) أي : يقول : جلّ ثناؤه : فليأت قائلو ذلك له من المشركين بقرآن مثله، فإنهم من أهل لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولن يتعذر عليهم أن يأتوا من ذلك بمثل الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - إن كانوا صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوّله وتخلَّقه .


و يقول السمرقندي – رحمه الله - : « يعني إن قلتم إن محمداً - صلّى الله عليه وسلم - يقول: من ذات نفسه ، فأتوا بمثل هذا القرآن كما جاء به إِنْ كانُوا صادِقِينَ في قولهم » .


و لنقف يسيرا مع قوله - سبحانه و تعالى - : ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ( سورة يونس الآية 37- 38 ) فهذه الكلمات القرآنية تحكي ما يردده المغرضون و ترد عليهم بكلام موجز في غاية الروعة و الفصاحة .


قال ابن كثير – رحمه الله - : « هَذَا بَيَانٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَوَجَازَتِهِ وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة لا تكون إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شيء في ذاته ولا في صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ فَكَلَامُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ .


وَ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أَيْ مِثْلُ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا كَلَامَ الْبَشَرِ ﴿ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المتقدمة ومهيمنا عليه وَمُبَيِّنًا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّبْدِيلِ .

وَقَوْلُهُ : ﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ أَيْ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بَيَانًا شَافِيًا كَافِيًا حَقًّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ أَيْ خَبَرٌ عَمَّا سَلَفَ وَعَمَّا سَيَأْتِي وَحُكْمٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرْعِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ.


وَقَوْلُهُ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ أَيْ إِنِ ادَّعَيْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقُلْتُمْ كَذِبًا وَمَيْنًا إِنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ فَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَقَدْ جَاءَ فِيمَا زَعَمْتُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، أَيْ من جنس هذا الْقُرْآنِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ .


وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي التَّحَدِّي فَإِنَّهُ تَعَالَى تَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاؤوا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى : ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ ( سورة الْإِسْرَاءِ الآية 88 )


ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ ( سورة هُودٍ الآية 13) ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى سُورَةٍ فَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ .


وَكَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ( سورة البقرة من الآية 24) الآية .
هَذَا وَقَدْ كَانَتِ الْفَصَاحَةُ مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَأَشْعَارِهِمْ وَمُعَلَّقَاتِهِمْ إِلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ ، وَ لِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَحَلَاوَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ وَإِفَادَتِهِ وَ بَرَاعَتِهِ فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ وَأَفْهَمَهُمْ لَهُ وَأَتْبَعَهُمْ لَهُ وَأَشَدَّهُمْ لَهُ انْقِيَادًا كَمَا عَرَفَ السَّحَرَةُ لِعِلْمِهِمْ بِفُنُونِ السِّحْرِ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ مُؤَيَّدٍ مُسَدَّدٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ لِبَشَرٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ .


وَكَذَلِكَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ فِي زَمَانِ عُلَمَاءِ الطِّبِّ وَمُعَالَجَةِ الْمَرْضَى فَكَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَ مِثْلُ هَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ فِيهِ فَعَرَفَ مَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ .


وَ لِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا " » .


و قال المراغي – رحمه الله - : « ﴿ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه وينسبه إليه، إذ لا يقدر على ذلك غيره - عز و جل - ، فإن ما فيه من علوم عالية ، و حكم سامية، وتشريع عادل، وآداب اجتماعية، وأنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة ليس في طوق البشر ولا هو داخل تحت قدرته وفى حيّز مكانته، ولئن سلم أن بشرا في مكنته ذلك فلن يكون إلا أرقى الحكماء و الأنبياء و الملائكة ، ومثل هذا لن يفترى على الله شيئا .


و لقد ثبت أن أشد أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و هو أبو جهل قال : إن محمدا لم يكذب على بشر قط ، أفيكذب على الله ؟ .
﴿ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه ِ﴾ أي ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحي لرسل الله تعالى بالإجمال كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم بدعوته إلى أصول الدين الحق من الإيمان بالله واليوم الآخر وصالح الأعمال بعد أن نسى بعض هذا بقية أتباعهم وضلّوا عن بعض، ولم يكن محمد النبي الأمي يعلم شيئا من ذلك لولا الوحي عن ربه .


﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ ﴾ أي وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشئون الاجتماع .


﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه ؛ لأنه الحق والهدى .


﴿ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ أي من وحيه لا افتراء من عند غيره و لا اختلافا كما قال : ﴿ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ .


و بعد أن أبان أنه أجلّ وأعظم من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله .


انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين الذين قالوا: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه و فنّد مزاعمهم وتعجّب من حالهم وشنيع مقالهم وتحداهم أن يأتوا بمثله فقال :


﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ أي ما كان ينبغي أن تقولوا إن محمد - صلى الله عليه وسلم - افتراه من عند نفسه واختلقه ، إذ لو كان الأمر كما تقولون وأنه اختلقه و افتراه ، فأتوا بسورة مثله في نظمه و أسلوبه و علمه مفتراة في موضوعها ، لا تلتزمون أن تكون حقا في أخبارها ، فإن لسانه لسانكم ، وكلامه كلامكم ، وأنتم أشد مرانا وتمرسا للنثر والنظم منه ، واطلبوا من يعينكم على ذلك من دون الله ، ولن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا ، فإن جميع الخلق عاجزون عن هذا ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ إن كنتم صادقين في زعمكم أنه مفترى .


وإذ قد عجزتم عن ذلك مع شدة تمرّسكم ولم يوجد في كلام أولئك الذين نصبت لهم المنابر في سوق عكاظ ، و بهم دارت رحى النظم والنثر ، وتقضّت أعمارهم في الإنشاء والإنشاد مثله- فهو ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر .


و من البين أنه ما كان لعاقل مثله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحداهم هذا التحدي لو لم يكن موقنا أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن في جملته ولا بسورة مثله، إذ لو كان هو الذي أنشأه و ألّفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله و ذكاؤه يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة و الباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به .


إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر قد يمكن غيره ، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه .


و الخلاصة : - إن محمد - صلى الله عليه وسلم - كان على يقين بأنه من عند ربه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله » .


و يقول السعدي – رحمه الله - : « يقول تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي : غير ممكن ولا متصور، أن يفترى هذا القرآن على الله تعالى ؛ لأنه الكتاب العظيم الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ ( فصلت الآية 42 ).


و هو الكتاب الذي لو ﴿ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ ، و هو كتاب الله الذي تكلم به ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، فكيف يقدر أحد من الخلق ، أن يتكلم بمثله ، أو بما يقاربه ، و الكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه ؟!! .


فإن كان أحد يماثل الله في عظمته ، و أوصاف كماله ، أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن ، ولو تنزلنا على الفرض والتقدير ، فتقوله أحد على رب العالمين ، لعاجله بالعقوبة ، و بادره بالنكال .


﴿ وَلَكِنْ ﴾ الله أنزل هذا الكتاب، رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين .


أنزله ﴿ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من كتب الله السماوية ، بأن وافقها ، وصدقها بما شهدت به ، و بشرت بنزوله ، فوقع كما أخبرت .


﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ﴾ للحلال والحرام ، والأحكام الدينية والقدرية ، و الإخبارات الصادقة .


﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي: لا شك ولا مرية فيه بوجه من الوجوه، بل هو الحق اليقين: تنزيل من رب العالمين الذي ربى جميع الخلق بنعمه .


و من أعظم أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي فيه مصالحهم الدينية و الدنيوية ، المشتمل على مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال .


﴿ أَمْ يَقُولُونَ ﴾ أي : المكذبون به عنادا وبغيا : ﴿ افْتَرَاهُ ﴾ محمد على الله ، واختلقه ، ﴿ قُلْ ﴾ لهم - ملزما لهم بشيء - إن قدروا عليه ، أمكن ما ادعوه ، و إلا كان قولهم باطلا .


﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يعاونكم على الإتيان بسورة مثله ، و هذا محال ، و لو كان ممكنا لادعوا قدرتهم على ذلك ، ولأتوا بمثله .


ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطلا ، لا حظ له من الحجة » .


و يقول سيد قطب – رحمه الله - : « ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فهو بخصائصه ، الموضوعية و التعبيرية بهذا الكمال في تناسقه و بهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها ، و في النظام الإنساني الذي يتضمن قواعده و بهذا الكمال في تصوير حقيقة الألوهية ، و في تصوير طبيعة البشر ، و طبيعة الحياة ، و طبيعة الكون لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله، لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله.

القدرة التي تحيط بالأوائل والأواخر، وبالظواهر والسرائر، وتضع المنهج المبرأ من القصور والنقص ومن آثار الجهل والعجز ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ما كان من شأنه أصلاً أن يفترى فليس الافتراء هو المنفي ، ولكن جواز وجوده هو المنفي ، وهو أبلغ في النفي وأبعد .


﴿ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من الكتب التي سبق بها الرسل تصديقها في أصل العقيدة ، و في الدعوة إلى الخير .


﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ﴾ الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من عند الله، تتفق أصوله وتختلف تفصيلاته .


وهذا القرآن يفصل كتاب الله ويبين وسائل الخير الذي جاء به، ووسائل تحقيقه وصيانته : فالعقيدة في الله واحدة ، و الدعوة إلى الخير واحدة ، ولكن صورة هذا الخير فيها تفصيل، والتشريع الذي يحققه فيه تفصيل، يناسب نمو البشرية وقتها، وتطورات البشرية بعدها، بعد أن بلغت سن الرشد فخوطبت بالقرآن خطاب الراشدين ، ولم تخاطب بالخوارق المادية التي لا سبيل فيها للعقل والتفكير .


﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق إثبات مصدره: ﴿ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾


﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ﴾ بعد هذا النفي والتقرير ، فهو إذن من صنع محمد. ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها ، ولا يملك من حروفها إلا ما يملكون. (ألف. لام. ميم) . (ألف. لام. را.) . (ألف. لام. ميم. صاد) ...إلخ فدونهم إذن- ومعهم من يستطيعون جمعهم- فليفتروا ، كما افترى (بزعمهم) محمد فليفتروا سورة واحدة لا قرآناً كاملاً :﴿ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
وقد ثبت هذا التحدي وثبت العجز عنه ، وما يزال ثابتاً ولن يزال ، و الذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، و يتذوقون الجمال الفني و التناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان ، و كذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية و مقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، و الفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار و التقلبات في يسر ومرونة .



كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد أو في جميع الأجيال. ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه .


فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها..


و الذين زاولوا فن التعبير، و الذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب ، و الذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي ، و الإنساني بصفة عامة ، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً » .

و يقول الألوسي – رحمه الله - : « فإن ما افترى إنسان يقدر إنسان آخر أن يفترى مثله » .

ولو كان العرب يظنون أن محمدا -صلى الله عليه وسلم - استعان بغيره في تأليف القرآن الكريم لأمكنهم أيضا من أجل المعارضة والتحدي أن يستعينوا بغيرهم؛ لأنهم مثله في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك وآثروا المقاتلة والمقارعة بالسنان على المعارضة والمقاولة باللسان - ثبت أن بلاغة القرآن الكريم كانت مسلمة عندهم، وأنهم عاجزون عن المعارضة، وغاية الأمر أنهم صاروا مفترقين بين مصدق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن المنزل عليه من ربه، وبين معاند متحير في بديع بلاغة القرآن، والأخبار المنقولة في ذلك عن الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما تؤيد ذلك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق